
في المشهد التلفزيوني السوداني يبرز برنامج «أغاني وأغاني» كواحد من أكثر البرامج رسوخا وتأثيرا، حتى أصبح جزءا من الموروث الشعبي وملمحاً ثابتاً من ملامح المزاج السوداني كلما حلّ شهر رمضان. فهو ليس مجرد برنامج يقدم الأغنية السودانية، بل منصة عميقة تُعيد وصل الناس بتراثهم الغنائي، وتستدعي ذاكرتهم الجمعية في مساحة تجمع بين المعرفة والطرب والحنين. ولعل تصدره المستمر لقائمة البرامج الأعلى مشاهدة يؤكد حضوره الطاغي، كما أن عوائده المالية الكبيرة على قناة النيل الأزرق تثبت أنه برنامج الأكثر ربحية والأعلى إسهاما في ميزانية القناة التشغيلية، وكل من ينكر هذه الحقائق إنما يحاول ـ عبثاً ـ أن «يغطي شعاع الشمس بغربال».
ورغم جماهيرية البرنامج العريضة التي تمتد من داخل السودان إلى خارجه، إلا أنه يواجه أيضاً هجوما دائما من شريحة لا يُعرف إن كانت دوافعها فنية أم شخصية أم مجرد رغبة في الجدل. لكن، وبرغم كل تلك الرياح، فقد مضى زورق «أغاني وأغاني» بشجاعة، وحافظ على بريقه حتى بعد ابتعاد رمزين كبيرين من رموزه: الأستاذ السر قدور الذي كان عقل البرنامج وروحه وحكايته، والمنتج الشفيع عبدالعزيز الذي أدار العمل بوعي وخبرة وقرارات صنعت استمراريته. برحيل السر قدور وهجرة الشفيع توقع الكثيرون أن تنهار المنظومة، لأن غياب شخصيات بمثل هذا الثقل عادة ما ينسف أي مشروع إعلامي.
غير أن ما حدث كان على العكس تماما. فقد جاء الباحث والأديب مصعب الصاوي ليكون خليفة جديرا للسر قدور، ويواصل ذات النسق المعرفي مع إضافة نكهته الخاصة وطرائقه الحديثة في التقديم. ومصعب شاب موسوعي وواسع الاطلاع، يتمتع بحضور قوي وقدرة مدهشة على ربط المعلومة بالوجدان، مما ساعد في إعادة ضبط دفة البرنامج وتوجيهها نحو المسار الصحيح دون أن يفقد «أغاني وأغاني» روحه الأصلية أو مكانته في قلوب الناس.
وأن يعود البرنامج في رمضان القادم، فهذا يمثل مكسبا مضاعفا، ليس فقط على مستوى المتعة الفنية، بل على مستوى الصحة النفسية الوطنية. فعودة «أغاني وأغاني» تعني انتصار الأمل على الحرب، وعودة الفرح إلى المساحات التي حاولت القسوة أن تطفئ أنوارها. فالحرب لا تُهزم باليأس، بل تُهزم بالعمل والإصرار على الحياة.
لكن، وبما أن الاستمرار يحتاج دوما إلى تطوير، فمن المهم تذكير فريق العمل بأن أغنية «يا بلد أصبحت كيف» هي الأكثر رسوخاً وانتشارا وقبولا لدى الجمهور. وقد كسب الفنان خالد عبدالرحيم الرهان حينما قدّم منتوجه الخاص بدلا من الاجترار وترديد أغنيات الآخرين بذريعة التوثيق. وهذا درس مهم الأغنية الخاصة تمنح البرنامج روحاً متجددة وتفتح بابا للإبداع، لذلك ينبغي أن يُعطى هذا الجانب مساحة أكبر في المواسم القادمة، حتى يتوازن المشهد بين التوثيق للتراث وخلق تراكم فني جديد يحمل بصمة البرنامج نفسه.



